سبتمبر 27، 2011

كــسر القــيد




في خصم الأجواء التي تشهدها المنطقة والثورات المتلاحقة التي ما تكاد إحداها تهدأ وتقف لتلتقط أنفاسها حتى تنهض أختها وتستلم المشعل منها وتمضي بخطى أسرع لتحقيق قدرها ، ووسط هده الأحداث المتلاطمة والمتسارعة وجب على العقلاء من أبناء أمتنا التريث والوقوف لحظة لإلتقاط الأنفاس والتفكر وإمعان النظر فيما تمثله هذه الثورات والغايات المنشودة منها و آثارها على الفرد والمجتمع.

عندما تُذكر كلمة ثورة ترتسم في الأذهان تلقائياً صورة لمتظاهرين مفعمين بالشباب والحيوية والشجاعة ، يرفعون لافتات تسطر مطالبهم ، يُلوحون بأيديهم في تحدٍ صارخ لقوى الإستبداد ، يصدعون بأعلى أصواتهم ويصرخون ملئ حناجرهم ثورة .. ثورة .. ثورة ، لا شيئ يثنيهم عن عزائمهم إلا الموت أو النصر.

ولكن بعد أن تهدأ الصورة وتستقر يتبادر إلى الذهن جملة من الأسئلة تطرح نفسها وتُلِح في طلب الإجابة ... ما هي أهداف ومطالب هذه الثورة أو تلك ؟

هل يكون بإسقاط هذا النظام أو ذاك تحققت جل مطالب المتظاهرين؟

 هل بمجرد تغيير نظام سياسي واستبداله بآخر تكون ثوراتهم قد انتصرت؟ 


قبل محاولة البدء في الإجابة عن تلك التساؤلات لا بد من تعريف معنى الثورة.
الثورة في اللغة .. هي التمرد والعصيان على نظام أو تعسف أو ظلم أو فساد .. هي الإندفاع العنيف من جماهير الشعب نحو تغيير الأوضاع السياسية والإجتماعية والفكرية تغييراً أساسياً .. وهي أيضا الخروج من الأوضاع الراهنة سواء إلى وضع أفضل أو أسوأ من الوضع القائم.
   

إن مما لا شك فيه أن التغيير لوضع أسوأ مما هو قائم هو السَّفَهْ بعينه .. وعلى هذا لا يختلف العقلاء على أن المطلوب هو التمرد على الوضع الراهن والتطلع نحو تغيير أفضل لا يشمل الجانب السياسي فقط بل يتعداه لكافة مناحي الحياة الدينية والأخلاقية ، الثقافية والإجتماعية ، التربوية والتعليمية.  
باختصار شديد المطلوب هو ... إعادة بناء الفرد على قواعد سليمة ومتينة وإعداده لتحمل العبئ الثقيل الملقى على عاتقه ألا وهو ... بناء المجتمع.

ولكن قبل الحديث عن بناء الفرد يجب أن نفطن للحقيقة المُرّة التي نعيشها وهي أن  الأنظمة القمعية التي ملكت شعوبها شرقاً وغرباً خلال العقود المنصرمة أجمعت على هدف موحد ألا وهو سلب الفرد إستقلاليته ... من خلال سلبه حرية التفكير.

 وقد نجحت تلك الأنظمة التعسفية نجاحاً باهراً في تحقيق مخططها عن طريق تجميد عقل الفرد وقولبته داخل قوالب مُعدّة مُسبقاً تخدم مصالحها وتحقق أهدافها وتلائم توجهاتها ، وعمدت إلى إلغاء العقل الفردي واستبداله بعقل جماعي يُفكر ككُل ، يتعلم ككُل ، يُحب ككُل ، يكره ككُل ، دون ما الحاجة لعناء التفكير فالقادة ومثقفيهم يُفكرون عنه، وإعلامهم وأفلامهم تُوجهه ، ومناهجهم وكتبهم تُثقّفُه ، وأزياءهم وصرعاتهم تتحكم في أهواءه. وأصبحت الشعوب تتحرك كالآلات وتُساق كالقطيع يُقال لها شنهقي .. فتُشَنْهِق ، اقفزي فتسأل لأي مدى؟؟

واطمأنت حكومات التنوير بعد أن وضعت عقل ذلك الفرد المسكين داخل صندوق القولبة وأوصدت عليه الأقفال ، فسُلِبته إستقلاليته بعد أن أضحى عاجزاً على التفكير خارج نطاق جدران صندوقه.

والويل كل الويل لمن حاول الخروج عن دائرة التفكير المسموح به لفلك فضاء التفكير الواسع بالتمرد على عادات و تقاليد ذلك الصندوق اللعين أو محاولة كسر قيده فذلك من أعظم الكبائر وأفظع المحرمات تحت ظل تلك الأنظمة وجريمة لا تُغتفر يُوصف مرتكبُها بالهرطقة في قواميس المستبدين يستحق عليها أقصى العقوبات.
 
ولكي نُدرك سر تلك الحرب الشعواء التي شنتها أنظمة الضلال والفساد على ذلك العقل المسكين وجب تعريف الإستقلالية لغوياُ.

إن الإستقلالية ... هي قدرة الفرد على اتخاذ قرارات نابعة عن خياراته بدون الخضوع لأي مؤثرات أو ضغوط خارجية.
فباستقلاليته ...  يُطلق الفرد العنان لعقله للتفكر والتأمل
وباستقلاليته ... يُميِّز الفرد بين الخير والشر وبين الحق والباطل
وباستقلاليته ... يختار الفرد طريقه بإرادته الذاتية ويتحمل مسؤولية إختياره
وباستقلاليته ... يُحب الفرد ويُبغض فيوالي من أحب ويُعادي من كره وفقاً لمنهجاً  مضبوطاً بعيداً عن الأهواء
وباستقلاليته وبوضوح رؤيته يري الفساد فيميزه ويُنكره فيُغيره، ويُبْصر ما ينفعه فيسعى إليه وينطلق بذلك إلى عالم الإبداع الواسع يضع بصمته المميزة غير مُكترث بالقوالب السابقة الإعداد.

لقد كرم الخالق تبارك وتعالى الفرد حينما منحه العقل وجعله مناط التكليف وحاكاه بـــ "أفَلا تَتفَكّرون"  و "أفَلا تَعْقِلون" و" أَفَلا تُبْصِرُونَ " فحثه على التأمل والتفكر بحرية وصفاء بعيدا عن أي ضغوط فبقاعدة "لا إِكْرَاه فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِ" ترك المولى للفرد حرية الإختيار واتخاذ قراره المصيري وتحَمُّلْ تبعات قراره بقوله: "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومن شَاء فَلْيَكْفُر" .. وإذا كان الفرد غير مُجْبَرٌ على اتباع شرع خالقه أفأنتم تُكرهونه على ما هو دون ذلك ؟؟؟ أو بعد هذا التكريم الرباني للفرد يستسلم للفساد والإستبداد بتخليه عن حقه الإلهي في ملكية عقله واستقلاليته ؟؟؟

إن الثورات الحقيقية التي يعقُبها التغيير الجاد والمؤثر هي التي تنتج من المعاناة والقهر لشعوبها وإن التكلفة الباهظة الذي تدفعها الشعوب ثمناً لثوراتها من قتل وتعذيب وتشريد ودمار وإن آهات المعتقلين وحسرات اليتامى ودموع الأمهات ودماء الشهداء الزكية التي سالت في ساحات الحريات تنادينا بل وتستصرخنا ألا نضيع معاناتهم وتضحياتهم هباءا بتغافلنا أو تخلينا عن أعتى أداة للإصلاح والتغيير .. ألا وهي ... الإستقلالية.

وحتى تُؤتي الثورة أُكُلها ونبدأ في جني ثمارها .. لا بد من كسر الأغلال والقيود وتحرير العقول لإسترداد حرية التفكير خارج حدود ذاك الصندوق اللعين .. وفي تلك اللحظة فقط نتمكن من إسترداد إستقلاليتنا .. وحينئذ نستيطع أن نحتفل و نعلنها على الملأ ... أن قد بدأت مرحلة التغيير وأن ... ثوراتنا قد انتصرت.

لقد أحببت أن تكون "كسر القيد" مقدمة لسلسة من المقالات في عدة مجالات سياسية ، تربوية ، تعليمية ، إجتماعية ودينية ...  أعتزم فيها بعون الله محاولة خوض  غمار مفاهيم ينبغي تصحيحها ومسائل لابد من تأصيلها ، وأطرح جملة من الأفكار خارج نطاق الصندوق الضيق وبعيداً عن القوالب العقلية الجاهزة.   

هناك تعليقان (2):

  1. خيط رفيع...
    ذلك الذي يفصل حرية التفكير بين الإنفلات المتحرر من كل قيدو من كل ضابط، و بين صندوق الظلام و قوالب الفكر...

    خيط الشرع الوسطي...
    ذلك الذي يحرر عقول العباد من عبادة غير الله.. مهما تنوعت و تلونت صور العبادة تلك من طواغيت مادية ملموسة أو معنوية غير ملموسة..أصنام محسوسة أو أفكار و أيديولوجيات مهووسة..

    خيط الشرع الحنيف...
    ذلك الذي يحكم جموح الأفكار من الشتت و التفلت ليضبط إيقاعها مع إيقاعات الكون الفسيح ..فلا تنغلق في صناديق الأفكار المصنوعة فتُخْنَق..و لا تتعدي حدودها المسموحة فتنحرف..

    هو ذلك الخيط الذي يخرج الأفكار من ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا و الآخرة..فتمتد الصورة لتشمل في عقولنا أبعاداً أخري غير هذا البعد المحدود..

    خط وسطي يحكمها بين الإنضباط و الإنفلات..بين الإفراط و التفريط..

    وفقكم الله

    ردحذف
  2. في انتظار باقي السلسلة بإذن الله...

    ردحذف