سبتمبر 08، 2011

المطلب الثاني : إنحراف الأمة



المطلب الثاني:    
إنحراف الأمة



   إن المجتمع الإسلامي منذ قيامه على يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قد قام على الحكم بشريعة الله ، ومضى على ذلك خلفاؤه الراشدون ، ثم الخلفاء الأمويون مضوا على ذلك وإن كان بدر منهم بعض الإنحرافات ، إلا أن الحكم الذي يتحاكم إليه الناس هو شرع الله ، يظلهم برايته ويرعاهم بحكمته وعدالته . ثم جاءت الدولة العباسية وكان الشرع أيضاً هو نظام الحكم مع وجود ثغرات بعض الشيئ . ثم جاء التتار ، وأتى هولاكو " بالياسق "[1] .
    
  وأما ما جدً في حياة المسلمين ولأول مرة في تاريخهم وهو تنحية شريعة الله عن الحكم ورميها بالرجعية والتخلف ، وانها لم تعد تواكب التقدم الحضاري ، والعصر المتطور فهذه رِدّة جديدة في حياة المسلمين . إذ الأمر لم يقتصر على تلك الدعاوي التافهة ، بل تعداه إلى إقصائها فعلاً عن واقع الحياة واستبدال الذي هو أدنى بها ، فحل محلها القانون الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي أو الإشتراكية الإلحادية وما أشبه ذلك من تلك النظم الجاهلية الكافرة .[2]

 ] ولقد كان لهم من وراء تنحية شريعة الله عن الحكم مآرب عدة . . وكانوا يعلمون بعد أن تنقض العروة الأولى - عروة الحكم - ستنقض بقية العرى واحدة إثر أخرى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة ، كلما نقضت عروة استمسك الناس بالتي بعدها ، فأولهن نقضا الحكم ، وآخرهن نقضا الصلاة " (رواه أحمد) .

 كانوا يريدون أن تعمل حركة التنصير في العالم الإسلامي وهي آمنة مطمئنة ، لتفتن من تستطيع عن دينه . ولن تجد هذه الحركة مجالا لو بقيت الشريعة قائمة ، ونُفذ حد الردة على المتنصر الذي يرتد عن الإسلام .

  وكانوا يريدون أن تشيع الفاحشة في المجتمع الإسلامي لتنحل أخلاقه ويسلس قياده للمستعمر ، ولم يكونوا ليستطيعوا -والشريعة قائمة - أن يفتحوا بيوتا رسمية للبغاء ، تحميها الدولة " المسلمة ! " بتشريعاتها وتنظيماتها وشرطتها ! ولا أن يفتحوا الحانات لتسقى الناس الخمر علانية باسم " المشروبات الروحية "  !! ولا أن يفتحوا المراقص للساقطات اللواتي أطلق عليهن بعد لقب " الفنانات ! " لتلهية الناس عن صلاتهم وصيامهم ، ودنياهم وآخرتهم ، باسم الفن والحضارة والتقدم !   
وبقى المؤمنون ينكرون ذلك كله بقلوبهم ، وقد عجزوا عن إنكاره بأيديهم ويئسوا[3] من إنكاره بألسنتهم ، ولكن حتى هذا القدر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه " أضعف الإيمان " " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " لم يكن مأمونا عند القائمين بالغزو الصليبي ، فقد يشتد يوما حتى يصبح " جهادا " حقيقيا كاسحا هو أشد ما يرهبونه من هذا الدين . ومن ثم سعى الغزو الفكري إلى تثبيت تلك الأوضاع على أنها هي الأصل الذي ينبغي أن يتبع ، وأن العدول عنه - بالعودة إلى تحكيم شريعة الله - هو الرجعية التي ينبغي أن يبرأ منها المتحضرون .

واستعين على ذلك بكل وسائل الإعلام المتاحة من كتاب وصحيفة وقصة ومسرح وسينما وإذاعة ( وتلفزيون فيما بعد ) كما استعين بمناهج التعليم التي تصور الإسلام وشريعته جمودا وتأخرا ورجعية ، وتصور الأوضاع القائمة في أوربا - بجميع جوانبها ومجالاتها - على أنها هي الحضارة والرفعة والتقدم ، وتخرج أجيالا وراء أجيال تعرف شيئا عن أوربا [4]، ولا تعرف عن الإسلام إلا ما يلقى في روعها من الشبهات !

واستُعين فوق ذلك كله بالفكر الإرجائي الذي يقول إن الإيمان هو التصديق والإقرار ، وليس العمل داخلا في مسمى الإيمان . كما استعين " بعلماء " من علماء الدين ليؤكدوا هذه المعاني الإرجائية في نفوس الناس ، بعضهم " طيبون " تستغل طيبتهم دون وعى منهم ، وبعضهم " محترفون " يضللون الناس على علم .] [5]
     ... (ونتيجة لذلك  أخذ دعاة الغرب وأبواقه يدعون إلى ما يسمى بالإصلاح والتجديد وذلك باتباع النمط الغربي في الحياة في علاج المشكلات التي يعاني منها المسلمون . يقول جميل معلوف  ( أحد أبواق التغريب ) : " إن خلاص الشرق يتوقف على تفرنج الشرقيين بمعنى الكلمة " 

        ويقول " أخا أوغلي أحمد " – أحد دعاة الكماليين (نسبة  لكمال أتاتورك زعيم العلمانية في تركيا ) : " إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين ، حتى الإلتهابات في رئتهم ، والنجاسات في أمعائهم " )[6]
   وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذ قال : "  ‏لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو ‏‏دخلوا جحر ضب ‏ تبعتموهم قلنا :يارسول الله ‏ ‏اليهود ‏ ‏والنصارى ، ‏قال : فمن " . صحيح البخاري

ويُلخص الأستاذ محمد قطب أسباب إنحراف الأمة في نقاط  بقوله :

 ) حين وقعت الحروب الصليبية الأولى التي استغرقت حوالي مائتي عام( 1096 –1291 م) والتي وقعت في أثنائها وبعدها كذلك غارات التتار ، كان المسلمون قد شُغلوا عن الإسلام  الصحيح ببدع وخرافات و معاص ، وتواكل وتقاعس وقعود عن الأخذ بالأسباب ( لعل الكاتب عنى الأسباب الشرعية ) ، ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش ، لا بوصفه عقيدة و لا بوصفه نظام الحكم ونظم الحياة ....

بل كانوا يشعرون - حتى وهم مهزومزن - بازدراء شديد لأعدائهم ، لأن عقيدتهم وتصوراتهم لا تتفق مع العقيدة الصحيحة ، ولأن أخلاقهم وأنماط سلوكهم لا تتفق مع أخلاقيات الإسلام وأنماط سلوكه . كان التتار - في حسهم - همجاً لا دين لهم ولا حضارة ، وكان الصليبيين هم المشركين عُبّاد الصليب ، وكانوا فوق ذلك منحلّي الأخلاق ، لا غيرة لهم على عرض ولا حفاظ . 
  أما في الحروب الصليبية الأخيرة فقد كان الموقف قد تغير كثيراً عن ذي قبل .
كان المسلمون قد انحرفوا انحرافاً شديداً عن حقيقة الإسلام ، لا في السلوك وحده ولكن في التصور كذلك .

مفهوم لا إله إلا الله – أساس الإسلام كله وأكبر أركانه – كان قد تحول إلى كلمة تقال باللسان ، لا علاقة لها بالواقع ، ولا مقتضى لها في حياة المسلمين أكثر من أن ينطقوا بها بضع مرات في كل نهار ! فضلاً عما أحاط بالعقيدة من خرافة ، وعبادة للأضرحة والأولياء والمشايخ ، بدلاً من العبادة الصافية الخالصة لله دون وسيط .

مفهوم العبادة  - الشامل الواسع – كان قد انحصر في شعائر التعبد ، من أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة ، ولم يعد مطالباً بشيئ من التكاليف أمام الله ! فضلاً عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزلة كاملة عن واقع الحياة ، كانها شيئ ليس له مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير . 

مفهوم القضاء والقدر  - الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة – صار في صورته السلبية ( بفهمهم الخاطئ ) قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب ! فضلاً عما صاحب ذلك من القوى الخفية من السحر والجن ...الخ ، جرياً وراء سنة الله الخارقة بدلاً من التعامل مع السنة الجارية التي أمر المسلمون بالتعامل معها ، واتخاذ الأسباب المؤدية إلى جريانها في صالحهم إذا توكلوا عى الله حق التوكل كقوله تعالى : " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " (محمد/7) ، وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - :" تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ".. أخرجه البخاري في الأدب المفرد .

مفهوم الدنيا والآخرة  - الذي يربط الدنيا بالآخرة ، ويجعل الدنيا مزرعة الآخرة – تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة ، يجعلهما موقع التقابل الكامل و موضع التضاد ، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة ، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا واكتفى  بالكفاف .

واما عمارة الأرض  فقد أهملت حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة ( حين أهملت بحجة الآخرة وكان ذلك من باب التقاعس )، فخيم على الناس الفقر والجهل والمرض والتخلف الحضاري والمادي والعلمي والعقلي .. وزاد على ذلك كله أنه – في حسهم – قدر مقدور من عند الله ، لا حيلة لهم فيه إلا الرضاء والتسليم !
فضلاً عن ذلك كله فقد خلت حياة الناس من الروح ، وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة ، يحافظ عليها من أجل  أنها تقاليد ، لا من أجل أنها جزء  من منهج حي يحكم الحياة  . فالعبادة تقاليد ، والسلوك تقاليد  ، وحجاب المرأة تقاليد ، وقضية العرض تقاليد.. أكثر مما هي عبادة  واعية لله ، أو منهج مترابط يحكم الحياة . .
  وحين جاءت الحروب الصليبية الجديدة والمسلمون على هذا الوضع ، كان الإحتمال  الأكبر أن ينهاروا ، و يسلموا   أنفسهم  للضياع ) ‍ . [7]    
                                                                                                                                                      
أما دعاة " الحضارة والثقافة " اليوم  في واقعنا المخزي ، فموقفهم مغاير لموقف المسلمين في العصور الغابرة  – حتى في أشد لحظات ضعفهم  - فنجد " عميد الأدب العربي " - والأدب برئ منه – يقول : 
  " لكن السبيل إلى ذلك – أي الرقي – ليست في كلام يرسل إرسالا ، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة ، وإنما هي واضحة بينة  ومستقيمة ليس فيها عوج ولا إلتواء ، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد ، وهي : أن نسير سيرة الأوروبيون ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة ( لعله قصد الحضيض ) خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يُحب منها  وما يُكره ، وما يُحمد منها وما يُعاب "  [8]
   وكيف به لا يقول ما قاله وهو الذي رُبي على أعين الغرب وفي أحضانهم ونهل من منابعهم العفنة فتشربها قلبه قبل عقله ... يا ليت قومي يعلمون !!!

 لقد تركت العلمانية آثارها السيئة على أمة الإسلام واضحة جلية ، وحققت مكاسب لم تكن تحلم  أي حركة مناهضة للحق بتحقيقها من قبل ، والمبحث القادم تلخيص لأهم نقاطها.
***


كتاب الولاء والبراء في الإسلام  ... محمد بن سعيد القحطاني  [1]
   2] المصدر السابق ]
3] لو استخدم لفظ" تعبوا" بدلامن يئسوا لكان أصح . ]
من هامش حول تطبيق الشريعة   ... لم يكن لديهم معرفة حقيقية عن أوربا ، فقد كان في الحضارة الغربية إيجابيات -رغم انحرافاتها الجوهرية- ولم يكن مقصودا تعليم المسلمين إيجابيات أوربا ، ولا كيف يتخذونها من أجل نهضتهم ، إنما كان المقصود تعريفهم -جيدا- بالانحلال الخلقي والإلحاد ، ليأكل في جسد الأمة الإسلامية في حين أنه بلا نزاع العلم وتطوره ) ) )حكراً على الغرب . [4]
حول تطبيق الشريعة ... محمد قطب [5]
  العصرانيون  بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ... محمد حامد الناصر    [6]
واقعنا المعاصر ... محمد قطب   [7]
الولاء والبراء في الإسلام  ... محمد بن سعيد القحطاني   [8]












   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق