سبتمبر 07، 2011

الخاتمة


الخاتمة


يقول الله تبارك وتعالى :
{ وَمآ أصَابَكُم مِّن مُّصِيبةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيديِكُم وَيَعفُوا عن كَثِير }( الشورى /30-31)
 إن كل مصاب ينزل بالإنسان في هذه الحياة ناتج عن مُخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن . [1]  

 وإن ما أصاب الأمة الإسلامية من وبال العلمانية ، وتسليط الأمم وأراذل وأشرار الناس عليها، ومحو هويتها ، وتجهيل أبناءها ، , وانحراف نساءها ، وانهيار أخلاقياتها ،   واستعبادها ، وامتصاص ثرواتها و... و ... ما هو إلا 
نتيجة حتمية لبعدها عن منهج الله .
يقول الله تعالى :
{ ومن أعرَضَ عَن ذِكرِى فإنّ لهُ مَعيشَةً ضنكاً وَ نَحشُرُهُ يومَ القِيَامَةِ أعمى }( طه/124)
ويقول المولى جل في علاه :
{ وَمَا ربُّك بِظَلاّمٍ للعَبِيد}( فصلت/46)
ويقول عز من قال :
{ إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقَوم ٍ حتَّى يُغَيِّروا ما بِأنفُسِهمِ }( الرعد/11)

 ولقد آن  لهذه الأمة أن تُغير واقعها  ... آن لها أن تعود لقياة البشرية  بإخرج الناس من عبادة العباد .. إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .

 وإن التغيير المطلوب لها  لن يتم باتباع سنن من كان قبلها من يهود أونصارى ، ولا من بعدها من فرق باطلة ضالة ، ولا بإستيراد نظم شرقية ولا غربية ، ولا بشحذ الهمم والآراء للتوصل لقوانين جديدة تكون زبالة لأذهان وحُثالة لأفكار البشر .

وإنه لا سبيل لنجاة هذه الأمة للخروج بها من أوحال وأدران الأنظمةالإلحادية والعلمانية الهدامة الباطلة إلا بالرجوع  لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لن يصلُح حال هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها .

"إن الله أخرج هذه الأمة لأمر عظيم .. أخرجها لتكون هي النموذج الذي تحتذيه البشرية ، لتهتدي إلى ربها ، وتطبق منهجه في الأرض ، فتنال خير الدنيا وخير الآخرة ، وتنال رضوان الله .  
وذات يوم حققت الأمة ذلك النموذج الفذ في عالم الواقع . . ولن تعود إلى التمكين والقوة حتى تعود إلى السبب الذي مكنها من قبل :   

{ ‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } ( النور /55)
 
ولن يعبدوه حق عبادته ، عبادة خالية من الشرك ، حتى يلتزموا بتطبيق شريعة  الله :
 { َفلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا  }( النساء/65)  "   [2]   

ولن يلتزموا بشرع الله حتى يتربوا على الإيمان ...
    " إن التربية الإسلامية التي ربها الرسول - صلى الله عليه وسلم- لإصحابه جعلت منهم أمة منظمة تنظيماً دقيقاً على أساس " إنساني" لا على أساس آلي .... وتلك مزية الإسلام . فهو ينظم الحياة - في جميع جوانبها - مع المحافظة على " إنسانية الإنسان " ألا يتحول إلى آلة ، فيفقد العمل دلالته النفسية التي يؤدى من أجلها ، بل يزل الإنسان - مع محافظته على النظام - واعياً لأهداف وجوده ، مريداً لتحقيقها في كل مرة ، لا مدفوعاً دفعاً آلياً إليها .

ومع النظام لم تعد العفوية هي صورة العمل في الأمة الإسلامية ، لأنه لكل عمل ....ضوابطه الشرعية ، وللشريعة في كل عمل "مقاصد" ينبغي تحقيقها ...ومن ثم يراجع الإنسان كل عمل يعمله ليرى هل هو في دائرة الحلال المباح أم خرج عنها ، ويراجع النتائج التي يمكن أن تترتب على عمله ، ليرى هل هي متمشية مع مقاصد الشريعة أم مخالفة لها ومع النظام والإنضباط والنظر في النتائج ، رباهم الإسلام على ........النفس الطويل والرؤية البعيدة .....فهناك هدف بعيد لكل فرد ، وهناك أهداف ممتدة لجميع الأمة.

  فأما الفرد ...  فقد رباه الإسلام على أن يعمل لا ناظراً لدنياه وحدها ، ولا لغده القريب وحده ،  بل يضع له هدفاً يتجاوز العالم المشهود كله ، والحياة الدنيا كلها ... ليصل به إلى عالم الغيب وإلى اليوم الآخر ... فيعمل في دنياه الحاضرة وفي لحظته الحاضرة وهو ناظر إلى عالم بعيد بعيد يتجاوز كل مدى الحس ، ولكنه حاضر في قلبه كانه يراه أمامه ، وكأنه متحقق في هده اللحظة . ويعمل وفي حسه ذلك الهدف البعيد الذي يسعى كل لحظة إلى تحقيقه، وهو الجنة ورضوان الله ... هدف لا يمكن أن يوجد في حس البشربة كلها هدف أبعد منه ... ومع ذلك فهو متعلق به دائماً ، يشعر في كل لحظة أن كيانه كله مرتبط به ، وأن كل خطوة يخطوها هي خطوة على الطريق إلى ذلك الهدف البعيد .

وأما الأمة ...  فقد رباها الإسلام على أن مهمتها لاتنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود ، ولا في أن تعيش لحظتها الراهنة ، وإنما لها هدف ممتد في الحياة الدنيا ، وممتد من الحياة الدنيا إلى الآخرة ...ذلك هو دعوة البشرية كلها إلى النور الرباني ، والجهاد لتكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض ، لتكون شاهدة على البشرية كلها في اليوم الآخر ...

{ ‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }(البقرة /143) 
{ ‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }(البقرة /193)

{  ‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(آل عمران /104)

ولقد ظلت الأمة تلاحق هذا الهدف ما يقرب من عشرة قرون متتالية ، لا تفتر حماستها له ولا تتقاعس عن الجهاد من أجله ، جيلاً بعد جيل ، وهذا " أطول نفس " عاشته أمة في التاريخ

ولكن خط الإنحراف  الطويل الذي مررنا بخطوطه العريضة من قبل(وذلك في فصل آثار الإنحراف من نفس الكتاب) ، وبينا آثار ه في حياة الأمة ، ظل يحدث انحساراً مستمراً في حقائق الإسلام ، وفي فعاليتها في نفوس الناس.. فارتدت الأمة رويداً رويداً إللا تأثير البيئة . ذلك أنه في غيبة العقيدة الحية المتمكنة من النفوس تصبح البيئة هي صاحبة التأثير... ومن ثم رجعت الأمة  إلى طبيعتها الفوضوية التي تكره الإنضباط ، العفوية التي تكره التخطيط ، القصيرة النفس التي تكره الرؤية البعيدة ولا تطيق المتابعة للأمد الطويل...

وإذ كانت هذه هي حالة الأمة - كما هو واضح لكل من يدرس أحوالها - فمن يصلحها ؟ !!

هل تصلحها.. الأحزاب السياسية الموالية للغرب ، وهي لا تضع ذلك في برامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه... وهذه هي تجربة قرن كامل من الزمان ، كانت الأمة منجرفة فيه إلى تقليد الغرب والذوبان فيه ، فما إستطاعت الأحزاب الموالية للغرب ، والداعية إلى التغريب ، أن تصلح شيئاً في هذا المجال ، وظلت الأمة - و إن لم تكن قد زادت -في فوضويتها الكارهة للنظام ، وعفويتها الكارهة للإنضباط ، وقصر نفسها الذي يشتعل حماسة للحظات ، ثم تنطفئ الحماسة وتخمد العزائم وتنصرف الجهود ‍‍‍ !!

هل تصلحها .. الأحزاب الشيوعية ، وهي لا تضع ذلك في برنامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه ... وهذه هي تجربة ما يزيد على ربع قرن في البلدان التي ابتليت بها من العالم الإسلامي ، لم تغير شيئاً من حال الناس ، إن لم تكن قد زادتهم انحرافاً في كل جوانب الحياة...!

إنه لا يصلح على إصلاح آثار هذه البيئة إلا العقيدة ... ولا يقدر على إصلاحها إلا أصحاب العقيدة الصحيحة ، الواعون لحقيقتها ، الذين تربوا تربية إسلامية صحيحة  ، كتلك التي رباها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ، فتستطيع هذه التربية - كما إستطاعت اول مرة - أن تنشئ النفوس نشأة جديدة ، منظمة منضبطة طويلة النفس ، تزيل آثار الإنحراف ، وتعيد الأمة إلى ما كانت عليه وقت إستقامتها على هذا الدين ،لا بهدف مواجهة " التحديات الحضارية " التي يذكرها بعض الناس وهم يتكلمون عن " الإصلاح " المطلوب ، بل بهدف إعادة الأمة إلى " خيريتها " التى أخرجها الله من أجلها :

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }(آل عمران/110)

وهو هدف يتجاوز كل " التحديات الحضارية " إلى ما هو أعلى وأنفس ... خير الدنيا والآخرة على السواء .


 إن القضية الأولى والأجدى التي يجب أن يوليها الدعاة والمربيين جل إهتمامهم هي " تعليم " الناس ما جهلوه من " حقيقة الإسلام " ، فإن تعليمهم هذه الحقيقة وتربيتهم على مقتضياتها ، هو العمل الحقيقي المثمر الذي يُغير أحوال الناس في العالم الإسلامي ، ويردهم إلى الحقيقة الضائعة ، فيردهم من ثم إلى أنفسهم ودينهم ، فيمكن الله لهم حين يستوون على الشرط :

{ ‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } ( النور /55)
 
 وإن هذا " التعليم " يحتاج من الوقت والجهد والصبر شيئاً غير قليل ، ولكنه في النهاية سيحسم القضية حسماً تاماً - إنشاء الله -  برد الأمة إلى الجادة التي شردت عنها خلال الأجيال ، وكان شرودها عنها في القرن الأخير خاصة هو الذي جر عليها الوبال ..

 تُرى كم جلسة ... كم درسا ... كم موعظة ... كم توجيها ... يحتاج إليه الإنسان الفرد ، وتحتاج إليها الجماعة ، وتحتاج إليها   " القاعدة " ليتمثل فيها أولاً هذا " المعنى " ثم لتكون قادرة على إعطاء المثل لغيرها ، فتسطيع بالتالى تربية الأمة كلها - أو من يستجيب منها - على هذه الصفات وهذه الأخلاقيات الضرورية لها ، لتتجاوز أزمتها الحاضرة وتأخذ في الصعود ؟ ! !   "  [3]   
 الله أعلم ... ولكن ما علينا إلا أن نبدأ ...

 نبدأ بأنفسنا ... فينصلح الفرد ..
 ثم بأهلينا ... فتنصلح الأسرة نواة المجتمع ..  
ثم بعشيرتنا الأقربين ... فينصلح المجتمع ..
وبصلاح المجتمعات ... تنصلح الأمة .

فلنأخذ بالأسباب الشرعية المؤدية إلى التمكين .. والنتائج على الله .

يقول المولى جل وعلا :

{ ‏لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏} ( البقرة/ 286)
 
وأختم بهذه الأبيات ، التي تعبر عن المرارة التي يعاني منها أبناء أمة الإسلام والتي وتجسد مأساتها ببعدها عن المنهج الرباني ...

إني تذكّرتُ و الـذّكـرى مُأرّقة ٌ                  مجـداً تليـداً بأيدينـا أضعناهُ

أنّىَ اتجهتَ للإسلامِ في بَلَـدٍ                    تجده كالطيرِ مقصوصاً جناحاهُ

كم صرّفتنا يَدٌ كُنـا نصرّفُهـا                    وبـات يملِكُنـا شعبٌ مَلَكناهُ
 
استرشد الغربُ بالماضي فأرشَدَهُ               ونحـنُ كـان لنا ماضٍ نسيناهُ

لقد مَشِينا وراءَ الغـربِ نقتبسُ                 من ضياءه فأَصـابتنا شظاياهُ

 باللهِ سَلْ خَلْفَ بحرِ الرّومِ عن عَرَبٍ          بالأمسِ كانوا هنا واليومَ قد تاهوا

وانزلْ دِمِشْقَ وسائل صَخْرَ مسجدِها         عمـّنْ بناهُ ؟ لَعَلّ الصخـرَ ينعاهُ

هذي معالمُ خُرسٍ كـلُّ واحـدة                منهـن قامت خطيباً فاغـراً فاهُ
  
اللهُ يعـلـمُ مـا قَلّبتَ سيرتَهُـم                    يومـاً وأخطـأَ دمعُ العينِ مجراهُ

لا درَّ درُّ امرىءٍ يطـري أوائلَهُ                  فخـراً ويُطرقُ إن سائلته ماهُوْ ؟

يا مَنْ يرى عَمْـراً تكسوهُ بُردتُه                 والـزيتُ أُدمٌ لَهُ والكـوخُ مـأواهُ

يهتزّ كسرى على كُرسِيّه فرقـاً                  مِـنْ خَوفِهِ ومُلوكُ الـرومِ تخشاهُ

يا ربّ فابعثْ لنا مِنْ مثلهم نَفَراً               يُشَيـدُونَ لنا مجْـداً أَضعنـاهُ

اللهم اجعلني وأبنائي وذريتي من مثلهم ...
اللهم آمين ...

سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين  

 * * *                                             


 ) أيسر التفاسير ... ابو بكر الجزائري     [1]
حول تطبيق الشريعة ... محمد قطب 2 )   ]
) واقعنا المعاصر ... محمد قطب  [3]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق