سبتمبر 08، 2011

المطلب الثالث : نشأة العلمانية


المطلب الثالث
نشأة العلمانية

المحور الثالثً ... العلمانية الناشئة
       
 "  كان الدين النصراني يحوي قدر كبيرمن الأساطير ، ويحارب العلم ويحجر على الفكر ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص في الآخرة ، ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح ، ويبيح في الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحيين ويكتنـزوا بها ويترفوا ويفسدوا، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته في الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم في الحياة الدنيا … لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم ، وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام .

 ويقول التاريخ - الذي تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة - أن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، سواء في الحروب الصليبية أو البعوث التي بعثتها للتعلم في مدارس المسلمين في الأندلس بصفة خاصة، وفي صقلية وغيرها من البلاد التي نورها الإسلام. " [1]
  
 وفي الحروب الصليبية التقت أوربا " ببقايا " الحركة - العلمية- الإسلامية [2].. أكبر حركة مد في التاريخ .. فكانت هذه البقايا تحمل من الحيوية والحركة والإشتعال ، ما استطاع أن يوقظ أوربا من سباتها ، ويبعثها تطلب الحركة والحياة .  [3]    
و لكن حينما تحركت أوربا طلباً للعلم والتغيير اصطدمت بثوابت أعاقت تلك الحركة .. ثوابت الأساطير والخرافة والجهل الذي كانت الكنيسة الأوربية قيّمة وحريصة عليه ، فأي شيئ كالجهل يمكن أن يضمن لها استنامة الجماهير لسلطانها الطاغي ، وأي شيئ يمكن أن تحذره اكثر من العلم الذي يحرر الأرواح والنفوس؟؟ 
   ومن هنا كان الدور الطبيعي للكنيسة - من موقفها الذي ترصد منه الحياة الأوربية - أن تحافظ على الجهل أطول مدة تستطيعها ، وتمنحه سلطان الدين وعنوانه ، وأن تحارب العلم ما وسعتها المحاربة ، وتسمه بالعصيان والمروق ، وتطرده من رحمة الله.[4]
    بدأ الصراع بين الدين العلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء في الأفران[5]، ، فعذبوا ونُكِّل بهم أبشع تنكيل ،لأنهم يخالفون " الحقائق المقدسة " التي احتضنتها الكنيسة ، وقالت : إنها كلمة السماء ![6]  

" ولم يكن ثمة شك ، حين يقوم الصراع بهذه الصورة ، بين الكنيسة والعلم التجريبي ، أن يؤمن الناس بما يثبته العلم ، ويكفروا بما تقوله الكنيسة ، وأن ينتهزوا هذه الفرصة السانحة فيقفوا في وجه طغيان الكنيسة ودكتاتوريتها الفظيعة ، وقد أمسكوا بأيديهم السلاح الذي(يحطمون) به أوهامها ، ويزلزلون به كيانها ، وينزعون قداستها من نفوس المؤمنين بها ، وكان ذلك السلاح الجبار هو .. " العلم " .
 ولكن أوربا حين نزعت عنها سلطان الكنيسة لم تكتف بذلك ، بل نزعت عنها سلطان الدين أيضاً ... ونشأت على أنقاض الكنيسة والدين فلسفة مادية بحتة ، تستمد وحيها من الأرض ، من واقع الحواس ، ولا ترتفع ببصرها لحظة واحدة إلى السماء .

 ومن هذه الفلسفة المادية نشأت كل النظريات الغربية الحديثة ، وكل الفلسفات المسيطرة عليها . منها نشأت شيوعية كارل ماركس في الشرق ، وفلسفة فرويد في أوربا ، والبراجماتزم في أمريكا . وكلها تمثل أصل واحد وإن اختلفت في المظاهر والفروع . "  [7]
       
يقول الدكتور إبراهيم الخولي الأستاذ في جامعة الأزهر : " العلمانية بدأت بهدنة بين العلمانية الناشئة والكنيسة ، انتهت بطلب فصل الدين عن الدولة ، وكانت المرحلة التالية شجب الدين جملةً ونفيه جملةً من الحياة . حين دعى لوك وليسنك وغيرهم إلى العلمانية الأولى المبكرة وهم يتحسسون الطريق ، كان سلطان الكنيسة ضاغطاً وقوياً ، وسيطرة الكنيسة مازالت قائمة ، وإمكانية الكنيسة أن تستنفر ضمائر الهمج المؤمنين بما تقدمه لهم على أنه المسيحية ، كان هذا يخيف هؤلاء الصاعدين فقبلوا المهادنة ، وكان المطلب الأساسي فصل الدين عن الدولة حتى تقوم دولة ذات سيادة ، تحميهم من بطش الكنيسة ، ينطلق العلم ، ينطلق الناس ، يفكرون تتحرر الضمائر ، يستطيعون على الأقل أن يقرأوا الإنجيل لا تطاردهم محاكم التفتيش ... ثم انتهى الأمر إلى العلمانية المتطرفة على يد ماركس حين قال في النهاية : " الدين أفيون الشعوب ومخدر الشعوب، وهو الذي يُكرس الظلم ، وهو الذي يطوع الفقراء للأغنياء" ... واستمرت المقولة، وحين هادن لينين الدين في بداية حكمه كانت مهادنة ميكافيلية ".   [8]

 يتحدث الشيخ سفر الحوالي عن الأفكار التي سبقت قيام الثورة الفرنسية فيقول:

   " ومن الأفكار التي أدت الى قيام الثورة الفرنسية ، أن الناس كانوا يعتقدون في الأعم الأغلب أن للملوك والأباطرة حق إلهي مقدس فهم يحكمون نيابة عن الله ، والبابوات يصححون لهم ، فكل مايتخدونه من أحكام ومايصدرونه من قرارات هي الوحي المنزل ، أي لا يتناقشون . إذاً السيادة وحق التشريع كان معطى لهؤلاء ، ومعهم رجال الدين ، الذين قال الله فيهم ، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ووضحها حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه ، وهي أنهم كانوا يطيعونهم ويتبعونهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فيشرعون ما شاوؤا ، ويسمون هذه النظرية ..  نظرية الحق الإلهي  ".


 هذه النظرية كانت السائدة في أوربا نفسها وظهر ضدها نظرية أخرى, هي ما يسمونه " نظرية العقد الاجتماعي " [9], تقول النظرية .. ليس لأحد حق إلهي أن يحكم أحد أو أن يسيطر عليه, ولكن المسئلة هي أن الأفراد متعاقدون مع السلطة والسلطة متعاقدة معهم . فالسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشـيـاء, والشعب بموجب العقد الأجتماعي أيضا يتنازل عن بعض حقوقه للسلطة لتتصرف فيها وتأمر وتنهى, وينفس الوقت يطالب بمقتضى العقد بحقوق له فهي مسئلة حقوق وواجبات, على السلطة من جهة, وعلى الشعب من جهة أخرى .
 الغربيون أعتبروا هذه النظرية فتحا عظيما, وأن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من فسر العقد الأجتماعي لمصلحة الأستبداد, يقول نعم العقد موجود لكن بمقتضى هذا العقد ولأن العوام لا حكم لهم, ولأنهم لا يعرفون الخير من الشر فتكون السلطة مخولة بفعل كل شئ فمن خلال العقد أستدلوا, ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع "[10].

 وقد نجم عن تبني " نظرية العقد الإجتماعي "  قلب أنظمة الحكم داخل ممالك أوربا بتحويلها من ملكيات يحكم فيها الملوك باسم الرب بدعم من الكنيسة وهو ما يُسمى الملك فيها head of state and church  - وهي بالطبع حكومة دينية في معتقد شعوب أوربا في ذلك الوقت وهي ما لا يجوز الإعتراض و الخروج عليها - إلى أنظمة ديمقراطية الحاكم يأخذ سلطته من الشعب ويحكم باسمهم و يجوز الخروج عليها بدعوى المحاسبة ( accountability ) إستناداً إلى المبدأ الشهير عند أصحاب هذه المدرسة وهو ما يُسمى  بالحرية والعدالة والمساواة .
 وقد استفاد اليهود من هذا الوضع الجديد .. فالملكية التي كانت أوربا تُحكم فيها باسم الكنيسة يستند الحكم والعمل السياسي فيها إلى قاعدة التعيين ، فمساحة العمل السياسي للأقليات كاليهود محدودة جداً إن لم  تكن معدومة ، والحواجز كثيرة و يصعب إختراقها ولو نجح البعض في إختراقها لما أدت إلى النتيجة المطلوبة التي يتحقق فيها التأثير على القرار أو إمتلاكه.

   أما النظام العلماني وهو فصل الدين عن الدولة ومن صوره حكم الشعب أو ما يُسمى بالديمقراطية demo crat فمساحة العمل فيه واسعة جداً يرتع فيها كل حسب مهاراته وكفاءاته مما يجعله غير خاضع لتخطي العديد من الحواجز للوصول إلى السلطة ويكون الجهد فيها مُركّز على مُخاطبة العقول بجميع فئاتها مما يًسهل عليه التاثير تارة بواسطة الكلام المعسول وتارة بإلباس الحق بالباطل مع تزين هذا الباطل بطرق ووسائل عدة .


 " و لما قامت الثورة الفرنسية - وهي قامت  عام 1789م - قامت  مستندة على نظرية العقد الأجتماعي, فلأول مرة في تاريخ الأنسانية يعطى حق السيادة والتشريع والتحليل والتحريم للشعب, والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد ثم تشرع ما تشـــاء وتحلل ماتشـــاء وتحرم ماتشـــاء".[11]

  وحين سارت الجموع الغوغائية لهدم سجن الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها الى ( الحرية والمساواة والإخاء ) وهو شعار ماسوني و( لتسقط الرجعية ) وهي كلمة ملتوية تعني الدين وقد تغلغل اليهود بهذا الشعار لكسر الحواجز بينهم وبين أجهزة الدولة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين الى ثورة على الدين نفسه .[12]
 
***


   كتاب مذاهب فكرية معاصرة / فصل العلمانية ... محمد قطب [1]
[2] يذكر الداعية محمد قطب :"وتعتبر الحركة العلمي الإسلامية في ميزان التاريخ اكبر حركة فيه إلى ما قبل العصر الأخير .. ويكفي من دلالتها أن يكون العلماء المسلمون هم الذين أنشأوا المذهب التجريبي الذي سارت عايه العلوم  كلها فيما بعد ،  وطبقوه على أوسع نطاق ، في الجغرافيا والفلك .. وفي الطب والكيمياء والطبيعة ."    
التطور والثبات ف الحياة البشرية...محمد قطب [3]
[4]  التطور والثبات 
 [5] العلمانية ... محمد قطب         
 [6] التطور والثبات    
 [7]  الإنسان بين المادية والإسلام ... محمد قطب رحمه الله   
 [ 8] من واقع برنامج حول العلمانية كان الدكتور الخولي أحد المشاركين فيه .    
[9] جان جاك روسو كاتب كتاب العقد الإجتماعي الذي يعد إنجيل الثورة سنة 1778م .   [1
  دساتير الغربيين ... الشيخ سفر الحوالي [10]
[11] المصدر السابق    
12] العلمانية ... موقع وحي السماء ( الإنترنت) ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق